2017/01/30

حـــكايتي مع القـــرم



أحمد يونس - أوكرانيا (نُشرت بتاريخ 20 أغسطس 2013)
عندما وصلت في بداية شهر يناير/كانون ثاني من عام 2010 إلى مطار مدينة سيمفروبل -عاصمة شبه جزيرة القرم- لم يدر بخلَدي قط أنني ربما أرجع وأزور هذه المنطقة الفريدة من نوعها ، وعلى الأحرى فقد كان تفكيري كله منصبٌّ على الوصول لمدينة بولتافا -شمال أوكرانيا- لألتحق بالجامعة على سبيل السرعة وأحاول لملمة نفسي لتدارك ما فاتني من دروس في الكلية التحضيرية للّغة الروسية هناك .
وقد دارت الأيام وها أنا ذاك في القرم التي قرأت عنها كثيراً وعن مآسي أهلها المسلمين ، وبعد مرور سنتين ونصف أنا الآن أتجول في شوارع القرم القديمة ومدنها الساحلية ، التي أزورها كي أتشرب طبيعة الناس هنا وأختلط بالمسلمين عن قرب وأتجول بها لأعيد شريط من الذكريات الطويلة والعذابات المرّة التي ذاقها مسلمي هذه الأرض .

سرتُ وأنا أشم رائحة تلك الدماء الزكيّة بعبق أزهار وأشجار القرم التي مرّ عليها الزمن وهي شامخة رغم كيد الظالمين والمجرمين ، سرت وأنا أرى ذلك الجمال الفتّان من جبال وغابات ووديان وخضرة نضّارة وماء وفير ، لقد مرّ علي التاريخ خلال يومين هنا كأنه حكاية مرّة للموت والتعذيب والتشريد بحق من ظلموا من تتار القرم إبّان الحقب المتعاقبة على مدار أكثر من 100 عاماً . بدأت رحلتي البسيطة بعد حجز تذاكر من محطة الباصات بمدينة دنيبروبيتروفسك -وسط أوكرانيا- لا سيما وأن تذاكر القطار قد نفذت جميعها ، وفي تمام الساعة 11 ليلاً انطلق الباص متجهاً نحو مدينة سيمفروبل بالقرم ، في الطريق مررنا على العديد من القرى والأحياء في نطاق القرم من بداية برزخ بيريكوب الذي يمتد على طول 7 كم عرضاً ، ورغم أنني لم أشاهد سوى مسجدين بمئذنة طول الطريق إلا أن ما شاهدته من فيديوهات وصور عن مساجد القرم وسكانها تشدُّك إلى أن تعاود الكرّة وتزور هذه المنطقة بالغة الجمال والروعة .

وصلتُ إلى سيمفروبل السادسة صباحاً وقد عانيت مرارة السفر بالباص طوال 7 ساعات على الكرسي ، رغم ذلك لم ينتابني أي شعور بالضيق ولا الضجر وواصلت الرحلة شوقاً لتفقّد ما يمكنني تفقده وزيارته من مناطق ومدن القرم الجميلة ، وقد اتجهت مباشرة إلى المركز الإسلامي الثقافي بسيمفروبل ( مكتب اتحاد المنظمات الاجتماعية - الرائد فرع القرم ) وهناك كان في استقبالي د. أمين القاسم -نائب مدير مكتب الرائد فرع القرم- وقد قدّم مشكوراً شرحاً مفصلاً عن مرافق المكان وطبيعة العمل والنشاط المقدّم لمسلمي القرم وقد أجريت معه مقابلة توضح هذا الجانب ، وقبل مغادرتي للمكان قابلت طفلاً بعمر 11 سنة ينتظر لدخول فصله في تعليم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم وسبحان الله هذا الطفل التتري المسلم يدرس هنا منذ عامين ويحفظ جزء عمّ ويدرس اللغة العربية ليتمكن من حفظ القرآن الكريم حسب قوله ، لأنه مسلم وعليه أن يتعلم كتاب دينه وهو "القرآن". توجهت بعد ذلك مستقلاً باصاً كهربياً من سيمفروبل متجهاً نحو مدينة ألوشتا الساحلية والمطلة على البحر الأسود تحت درجة حرارة قاربت الـ 30 مئوية ، وفي الطريق ترى على جانبيك الجبال الشاهقة تعانق السماء والأشجار النضِرة وبيوتٌ هي أقرب إلى بيوت الريف التتري ، حتى ما وصلت إلى الشاطئ أسرعت للسباحة فيه رغم أنني أعيش في قطاع غزة على شاطئ البحر ، لكن هذه المرّة هناك شعور مختلف فأنت بين جبال شاهقة ومناظر طبيعية خلابة وتربة سوداء وصخور جميلة ووسائل منوعة من الترفيه والتسلية والهدوء والراحة للاستجمام والاستمتاع للسائحين والزوار .

وبحلول المساء أخذنا نبحث -أنا وصديقي- عن مكان لنبيت ليلتنا فيه فاضطررنا للسفر مسافة 40 كم إلى مدينة يالتا الساحلية المجاورة وبتنا في فندق محطة الباصات ، ومنذ الصباح الباكر أخذنا رحالنا متجهين نحو منطقة ألوبكا ذات الجمال الفتّان و الفن المعماري الفريد في تصميم قصر ألوبكا التاريخي (ألوبكينسكي دفاريتس) وبعد جولة استغرقت 4 ساعات في جوانب القصر وحديقته وصولاً إلى مرسى صغير للسفن عدنا أدراجنا إلى رأس عش السنونو (آي تودور) في منطقة غاسبرا القريبة ومشينا مسافة 20 دقيقة أسفل الجبل إلى أعلاه في انحدارات مختلفة متداخلة مع الأشجار على طول الممرات نحو القمة ، وبالأعلى لا شعور يراودك سوى أن تخلو بنفسك مع المنظر الخلاّب وأن تشاهد البحر الأسود والجبال المجاورة في منظر يكاد لا تراه في أي بلد آخر ، وبعدما أخذنا قسطاً من الراحة بدأت بالتقاط الصور للمكان وروعته إلى أن فرغت بطارية كاميرتي .

من غاسبرا انتقلنا بحراً إلى يالتا ولك أن تتخيل ذاك الشعور وأنت وسط البحر الأسود وعلى مرأى ليس ببعيد عن الشاطئ ومبانيه وتحفته الفنية الراقية ، في يالتا وصلنا منتصف الظهيرة في بالغ جوعنا حتى وصلنا إلى مطعم للشاورما يعمل به شاب مصري والحمد لله فقد كان اللحم حلالاً ، وبعد جولة سريعة استغرقت ساعتين في معالم يالتا وشاطئها وميناءها الجميل كان حتماً لنا أن نسرع الخطى رجوعاً كي لا يفوتنا القطار هذه المرة ، في سيمفروبل وصلنا قبيل المغرب فتوجهنا إلى مسجد الجامع الكبير بوسط المدينة التقطنا بعض الصور وانطلقنا سريعاً لمحطة القطارات لندرك القطار رجوعاً . جلست بمقعدي في القطار وببالي الكثير الكثير من الأفكار والخطط فيما لو أعاود الكرّة لأتجول بمدن أخرى مثل سيفاستوبل ، إفباتوريا ، بختشي سراي ، كيرتش ، دجانكوي ، فيودوسيا ، بيلاغورسك ، سوداك .. الخ ) وقررت إن شاء الله مع إجازة الصيف وبدء بطولة أمم أوروبا 2012 في أوكرانيا أن أكمل الصورة الرائعة عن القرم ومدنها التاريخية وأكتب عنها في رحلة قريبة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق