ويقول العلاّمة ابن خلدون -عربي النسب والنشأة-، في مقدمته، تحت (فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب):
(والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة؛ باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم، فصار
لهم خُلقاً وجِبلّة، وكان عندهم ملذوذاً لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسّياسة، وهذه الطّبيعة منافية للعمران، ومناقضة له، فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب - بمعنى التنقل - وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران، ومناف له، فالحجر مثلاً، إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر، فينقلونه من المباني، ويخرّبونها عليه، ويعدّونه لذلك، والخشب أيضاً، إ اّمن حاجتهم إليه ليعمّدوا -عمد السقف: دعائمه وركائزه- به خيامهم، ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه، لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران، هذا في حالهم على العموم*.
ويقول العلامة مؤسس علم الاجتماع تحت فصل آخر، وهو (فصل في أن العرب أبعد
الأمم عن سياسة الملك)، وذلك بعد أن علل لم العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك، وأن الدين هو الذي نظم حياة العرب، وجعل فيها روحاً وقانوناً، قال: كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصّلاة، يقول: أكل عمر كبدي، يعلّم الكلاب الآداب، ثمّ إنّهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدّولة أجيال نبذوا الدّين، فنسوا السّياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجهلوا شأن عصبيّتهم مع أهل الدّولة، ببعدهم عن الانقياد، وإعطاء النّصفة، فتوحّشوا كما كانوا، ولم يبق لهم من اسم الملك إلا أنّهم من جنس الخلفاء، ومن جيلهم، ولمّا ذهب أمر الخلافة، انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم، لا يعرفون الملك، ولا سياسته، بل قد يجهل كثير منهم، أنّهم قد كان لهم ملك في القديم، وما كان في القديم لأحد من الأمم في الخليقة، ما كان لأجيالهم من الملك، ودول عاد، وثمود، والعمالقة، وحمير والتّبابعة شاهدة بذلك، ثمّ دولة مضر في الإسلام بني أميّة وبني العبّاس، لكن بعد عهدهم بالسّياسة لمّا نسوا الدّين، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان، غلب على الدّول المستضعفة، كما في المغرب لهذا العهد، فلا تكون غايته إلا تخريب ما يستولون عليه من العمران، كما قدّمناه، قال تعالى: {وَالله يؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ}. (البقرة: 247)
(*) مقدمة ابن خلدون، ص: 149
+ المصدر: بتصرف من مقالة د. حمزة ذيب مصطفى "هل يختلف عرب اليوم عن عرب الأمس؟" - مجلة الإسراء عدد140
لتحميل كتاب مقدمة ابن خلدون : اضغط هـــنـــا