2017/05/23

هل من عودة لذواتنا؟


كثيراً ما راودني هذا التساؤل، لا سيما وأن الواحد منا قد بذل جهده وطاقته سبيل تحقيق ذاته، وإشباعها برغبتها في تملك الأشياء، وما تجاربنا المتراكمة واحدة تلو الأخرى إلا نتاج ما أشارت به أدمغتنا فعله، فتصيب مرة وتخيب أخرى، وعلى ذاك المنوال تدرك في قرارة نفسك أن ثمة هوة تتملكك، وتحتّم عليك الإسراع بجرد حساب ما فاتك، ولكنك على عادتك تبقى تعطي فرصة لتخطئ من جديد.

تتسارع وقائعنا رغماً عنا، ونتعرض في رحلة المجهول هذه، لسيل من اللكمات بل وتتقاذف أفكارنا غربة الروح، وأنين مظلوميتنا يئن ويئن، كنت أعي تجربة المشي تحت الماء، كما وعيت تجارب النوم على كرسي التحقيق مكبل اليدين، واستنشاق نفث النيكوتين في عينيّ، وانتظار ثمانِ ساعات خلف رنة هاتف، وتمرير صندوقٍ يحوي بضع لفائف من خيوط الغزْل عبر البريد. على النقيض كنت لا أزال أبحث في جوهر الصور التي تتراءى لي هنا وهناك، أطفال حفاة يهرعون نحو طابور توزيع ملابس جديدة، وأمهاتهم يتزاحمن إلى كيس إغاثة دولية جيء به ليسد رنين أمعائهم، فيما بضعة كهول لا يملكون حولاً ولا قوة قد هالهم ما آلت إليه ذواتهم.

ها أنا الآن ظهر السبت الأسود ممدد على تلة بلدتنا المطلة إلى وادي موسى من الجهة الغربية، ممسكاً بلوح خشبي نُقشت عليه بضع حروف كنعانية، خلت نفسي ملكاً تلك اللحظة، فبين يديّ قطعة ثمينة التقطتها حواسي بينما كان دوري في فحر بئر البلدة، كانت تجربتي الأولى مع الولع بالأشياء، وكأن القدر يهبني ذاتاً غير التي أحمل، كنت أتمتم: "سأدثرها تحت آخر شجرة توت في طريق الواد، بل خلف قبر جدي هناك من سابع المستحيلات أن يعثر عليها أحد، لا لا .. ربما من الأفضل تركها فوق علّيّة عمي صالح"، لكن صوت بحة أمي تناديني في رخائي.. عكّر مسيرة إخفاء اللوح الكنز.

أمي التي جئتها بعد ست بنات يافعات، كانت تلهث كالمجنونة في أطراف ما كان يدعى دارنا، تلملم ما اعتقدته يسد حاجة غيابنا التي لن تتعد اليومين، بينما زوجها -أبي- يشد على صرة مملوءة بصاغين ذهب و ستمائة جنيه فلسطيني ليدفنها أسفل زيتونة دارنا المعمرة، بينما كانت أجساد القرية تتلاطم نحو الشمال تارة والجنوب تارة أخرى، جلست هنيهة قرب عتبة الدار واللوح لم ينفك يوخز ذاكرتي الرثة، أين ترانا سنهاجر بذواتنا الآن؟

قرر أبي أن يسلك طريقاً ساحلية نحو الجنوب، حتى نأمن من أخبار إزهاق الأرواح، احتجنا في يومنا الأول أن نريح أجسادنا بليل، ثم ننتظر لتاليه حتى نتمكن من الرجوع بعد سيادة الصمت، لكن أفواج المرحّلين التي كانت تتوافد قبالتنا أشارت باستحالة ذلك، وأنه علينا الانتظار بضع الوقت كما الآخرين، ونتحين الفرصة ونعود أدراجنا شمالاً.

كانت ذواتنا قد انهمكت في الانتظار، وانتقل أبواي نحو دار جديدة بدوني، الشمس تشرق منكفئة على نفسها، هي الأخرى تعلم حجم أنيننا، فظهر اليوم أكمل تسعاً وستين انتظاراً، وأكمل وجعي التاسع والستين، بينما ضجر ما أعيش به والأربعين روحاً التي تشاركني بهو هذا الخراب يضرب ذاكرتي، وما وُعدٙ به أبي تلك الظهيرة المشؤومة يلعن دجل المارون على أديمنا المقدس، و زيف ما ظننته يومين أحيل إلى أزيد من ثلاثمائة ألف كذبة وكذبة.


عن ما بات يعرف في قاموسنا "نكبة"، وعن وعود كثيرة منذ ذلك النهار إلى نهاري هذا، قارعت ذواتنا تجارب الخديعة والوهم واليأس، جابهنا أيامنا المتراصة في شريط ما نعتُّه يوماً "لعبة قذرة"، سقوطنا في وحل التيه، وتيهنا بين مسكّنات جيراننا التالفة، بل وجشعهم في كسب الوقت على حساب بقاءنا في تغريبتنا الموحشة، فأيُّ كلمات تكفي تصوير فظاظة وغرابة جيراننا؟ وأي "نكبة" تلك التي لا تعود ذواتنا عنها؟

2017/05/22

ماذا فعلتَ بعد خيبتك الأولى؟

بقلمي // 

علني أكتب بعد وقت طويل الآن، لكن أن تكتب متأخراً خير من ألا تفعل، تماماً كما تجيئ الأحلام، متأخرة دائماً لكنها حتماً تأتي، يختلف هنا قليلاً وجه المقارنة، تكتب بإرادتك اليوم .. ثم يصفعك حلمك على ذات غرّة، فاللحظة التي تكون فيها قد اضطجرت من هول الفجوة الزمانية التي وجدت روحك بها، يتراءى أمامك مستقبل السراب، كنتٙ على بعد خطوة من بلوغه، إلا أنك خِبتْ.

ها أنا أكتب الآن وقد جاوزتُ تسعمائة خيبة، كنتُ أتبعتهن بخمسمائة أخرى، لك أن تتصور معي شكلهن، أبالغ لو قلتُ لك أنهن ألف وأربعمائة كذبة، كذبتهن على نفسي، بل أقسم أنهن سرقن مني لطفي وعافيتي، أذهبنني بعيداً عني، وأذعنت للاشيء، وا أسفاه عليّ .. أيقنت بوقت متأخرٍ أنه لا شيء.

كثيراً ما ساءلتُني، ماذا فعلت بعد خيبتك تلك ؟ وأكثر ما كنتُ أدّعي النوم هرباً من مصارحتني، وأكثرُ ما فعلتُه الصمت في حضرة الخيبة، كيف أصبحتُ الغريب عني، وكيف كنتُ الشريد والهارب والطريد، كم تحاشيتُ قوتي وانحدرت عميقاً قاع السِّلم، وكم شُتمت لفٙرط ما لدي من طيبة، ماذا فعلت ؟

يا صاحبي الذي كنتٙ، فعلتُ كثيراً خلال الأربعمائة خيبة الماضية دونك، بكيتك فيهن جميعاً، وتهت بك في نصفهن، وغلبني الشوق لك في مائة، وكتبتك في خمسين، ولعنـتك واحدة. قرأت عنك غداة كل نهار، وبينما أنا كذلك كنتٙ تخرج لي بين السطور، تقتحمّٙ علي خشوعي، تلعثمني حروفك بين بحر الكلمات، هنا سين هنا ياء هنا ألفٌ .. هنا أنت، لا بل هناك، كنتُ أفر منك لأتحاشى السقوط فيك .. لكنني أخشى أني فعلت.

إذا كنت أهرب منكِ .. إليكِ ** فقولي بربكِ.. أين المفر؟!

فعلتُ أنني كل صباح أستمعك، وأُملئ رأسي بحرارة فقدك، فعلتُ أنني وللصدفة القذرة كل رواية أقرأها تخبرني عنك، فعلتُ أنّني خدعتك عندما قلت لا أذوب في مقلتيك، عندما كنت حراً في وجنتيك، عندما عشت بك، وبحضورنا.

اذا هجرتَ فمن لي ... ومن يجمّل كلّي 

ومن لروحي وراحي ... يا أكثري وأقلّي 
أَحَبَّكَ البعض منّي ... فقد ذهبت بكلّي 
يا كلّ كلّي فكنْ لي ... إنْ لم تكن لي فمن لي 
يا كل كلّي و أهلي ... عند انقطاعي وذلّي 
ما لي سوى الروح خذها ... والروح جهد المقلِّ


مؤكد أنك تقرأ هذه السطور في ذكرى الأربعمائة غدرة بعد الألف، وتضحك في قرارة نفسك،  أراك تماماً تشد أنفاسك من أن تبتسم، تقرأها حرفاً حرفاً وتزنها كلمة بعد كلمة، وأدرك أنك تٙحجِمٙ عني، بالمناسبة أنني كذلك أيضاً، ولكن ما على قدرنا أن يعلمه أن ذلك المستقبل الهش الذي ينتظرنا سألطخه بك، وأن قدري المعتم لن يبرأ حتى ينير بدونك، وإن ما زلت تلاحق سماع جواب سؤالك الكبير ..

"... لا شيء، دخلت لخيبتي الثانية بكامل إرادتي"

اعلم يا روحي المعلّقة، أنّني اجتزت صحراءك المقفرة بعد وادي الموت، ودست على مئات الجثث المتعفنة في رحلتك التي نعلم، كما أبشِّرك أن محاولاتك المتتابعة نحو تقمص الأدوار لن تنيلك الغفران، شيء وحيد فقط ينْجي هفوتنا معاً، نلتحق بقطار بعيداً فنغفر خطايانا ونوقفه في الأراضي المنخفضة.