فرحة لا توصف تلك التي غمرتني عندما صرت أنا والرحيل على بعد خطوة واحدة، لا أخفي أنني بت أتراءى ذلك الغد المنتظر، و يوماً عن يوم كان هاجسي الوحيد أنّ عليّ بلا جدال أن أصل إلى شاطئ الغربة، أقنعت نفسي أنني وإن كنت لا أجيد السباحة، فحتما سيكون بمقدوري الغوص وأن التدرب عليه رغم مشقته سيجعلني غواصاً محترفاً.
"أحن إلى خبز أمي.. ولمسة أمي"، "يا الرايح وين مسافر؟ تروح تعيا وتولي"، "يا زريف الطول وقف تاقلك رايح عالغربة وبلادك أحسن لك"، "والغربة صعيبة وغدارة" كانت مقطوعات ترن في أذنيّ باستمرار كلما جاءت أخبار جديدة عن المسافرين العالقين، فتارة تخطفني الكلمات بعيداً فأتيه، وتارة أخرى أصفها بالساذجة وأنه من الخيال ما يقوله هؤلاء، فبلادي هي الروح، أما قسوة المستقبل فهذا سابق لأوانه، ولكلٍّ نظريته في الأشياء.
أقنعت نفسي بعقلانية، أن التشويش والتخويف لن يقف أمام رغبتي وعزيمتي، لا سيما أن الفرصة لا تعوض هذه المرة، وما كان مجرد حلم، أضحى الآن حقيقة. كان الزمن يسابقني، بعد أن اقتحم عليّ سكوني فإذ بي أسكن فجوة مكانية جديدة، وهنا فقط أيقنت بدء القوانين الجديدة.
تنهض من صباحك، تحمل ما على كاهليك من أرق، بالكاد تجد ما تسد به رمقك، ليس لشي إلا لأنك لم تجد كفايتك من اعتناءك بنفسك، تقضي جل نهارك في مقارعة المحيط، ثم تعود أدراجك بروحك المثقلة بهاجس المسافات، فتغفو بصمتك المطبق في مكانك، وهكذا دواليك تعيد تكرار هذا المشهد حولاً بحول، روحك المتعبة وجسدك الهزيل الممتلآن بما في صدرك من ضجر، يصارعان معمل دماغك وأيقونات تفاعلاتك المرتبة، كنتٙ تهب هذا شيئاً وتلك شيئاً آخر، فيما كان المختبر على فوهة المكان المضّٙجر يرقبْك بحذر.
بينما ما أسميتٙه "غربة" يوغل فيك وفي جمالك، كان حنينك إلى "وهران" يرابض فيك، يغزو دفاعاتك على مهلٍ، يزيدك قناعة متصاعدة بأن الشوق لا ينضب، لا يخبو حضورها في جريرتك التي كنت، دلالة الرمزية التي تعنيها لك "وهران" -رغم قسوتها- لا تحدها حدودٌ فيك ولا تعيقها غربة.
كانت وهران جزيرتك الفضلى التي مع الوقت أكسبتٙها ثقتك، وأمّلت على ما عرفت عن جماليتها وسحرها الأخاذ، فيما جدلية صراع روحك وما بين عينيك لا تزال لم تبرح مكانها. بين الفينة والأخرى تغازلك حاراتها القديمة، صفو مياهها شديدة الزرقة، وشوارع كنت تحفظها بحكم أنك لم تترك واحداً إلا مررت عليه، بيوتها العتيقة، ورائحة منسدلة عن أشجار أبنيتها الفخمة، حتى ترانيم أطفالها عندما كانت تكشف ابتسامتك وقتئذ، كل ما فيها يحيلك إلى قطعة ملتهبة من الشوق، لكن أنّى لك بها الآن.
أصدقاءك منذ طفولتك كلٌ وجد وجهة إلى حال وجهتك، فيما احتل "وهران" جيل آخرٙ تماماً عنك، ورث عنكم هذه الجزيرة الملأى بقصصكم وبعذابات أشواقكم، الحُبلى بأنانيتكم وثورات أرواحكم، كنتٙ وأنت في صقيعك هناك على الضفة الأخرى تتوهم صوابية غربتك ووحدانيتك، لكنني وكما كل العالقين في فجواتهم أدركنا أنه قد يتراءى لنا استحالة تجاوز ما علقنا به، إلا أن القدر -رغم أنه يجيء متأخراً- كان دوماً يمنحنا فرصة المرور.
لعل بعد تجربة مستقبلك مراراً ومحاولاتك المتعثرة -رغم نفاد صبرك- جعلانك تدرك آنفاً أن "وهران" فرضيتك الرثة في الحب، وأنّ من تغنّى بك مناجياً أنْ عُد فبلادك أجدر بك .. وأنّ من تغنّى فأخبرك بغدر الفجوات المكانية .. و ذلك من أنشد يقول لك : "ستدرك يا ولدي عند رحيل العمر بأنك كنت تطارد دخان" كانوا على صواب في الأمر، وأنّ السجن الحربي بوهران كان سبيل هروبك الوحيد من عزلتك واخفاقاتك.