2017/10/22

كوردستان .. تساؤلات مشروعة!


أحمد يونس - أوكرانيا

أثارت خطوة حكومة كوردستان العراق بتنظيم استفتاء أحادي الجانب لتقرير المصير غضب وانتقاد الكثيرين، سواء من الداخل العراقي وحتى من الجيران العرب والترك والفرس بل والمجتمع الدولي.

وما بعث الوجع في قلوب الملايين هو تشدق القادة الأكراد وفخرهم بمتانة العلاقة التي تربط الإقليم بدولة الإحتلال الإسرائيلي، ومما لا يخفى على أحد نضال وكفاح الشعب الكوردي على مر العصور في سبيل نيل حقوقه القومية واللغوية والاجتماعية الخاصة، إلا أن الحقيقة المرة بوقوف الكيان الصهيوني خلف تشجيع روح الانفصال كشف عن المأزق الكبير الذي وضع الكورد أنفسهم فيه.

كيف لشعب عاش بيننا لمئات السنين برغم ما تجاذبها من مد وجَزْر، أن تنحرف بوصلته النضالية نحو الاستنجاد بدولة الإجرام والعصابات الإرهابية، كيف ارتضى الكورد أن يقوده قادته نحو نسج علاقات الود مع قتلة الأطفال ؟ بل كيف بسهولة أن تتغير قناعات وعقيدة الكورد في سنوات قليلة ليواجهوا جيرانهم واخوتهم في الوطن والجغرافيا ؟ أيعقل أن يرمي الكورد مئات السنين من الألفة والعيش المشترك عرض الحائط ؟ في سبيل امتيازات اقتصادية وشخصية ضيقة، ويعرف المواطن الكوردي أنها لن تعود بالنفع المباشر عليه، بل ربما توزع الثروات والأموال التي وعد بها الأكراد على قادة الأحزاب والتشكيلات العسكرية لضمان ولاءها المطلق للممولين الغربيين والصهاينة.

برغم من ضجر حكومة كوردستان العراق من تصرفات حكومة بغداد إلا أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تتخذ الأمور ذلك المنحى الكارثي، إن للكورد روابط وعلاقات مشتركة مع العراق لا يمكن لسبب أو لآخر التحلل منها والتخلي عنها بُغية مكاسب شخصية ضيقة لقادة الكورد الطامعين بالانفصال بتحريض اسرائيلي جلي للعيان.

علاوة على ذلك فإن القارئ للتركيبة الكوردية في أقطار مثل: سوريا، تركيا، إيران، يدرك تماماً وضوح الفوارق الأيديولوجية والفكرية والسياسية بينهم، فعلى سبيل المثال؛ فإن كورد سوريا لهم آمالهم الخاصة ولكن بكل تأكيد لا يمكنهم بناء كيانهم الذاتي كما هو الحال في أربيل، كما أن البعد الجغرافي بينهما يرجح هذا الطرح، أما في إيران فإن الكورد هناك لا يتمتعون بأي نشاط سياسي يمكن التعويل عليه، لجانب نشاط الدولة البوليسي في كبح جماح الكورد يجعل طموح كوردستان الكبرى من الخيال، أما تركيا فقد قطعت الطريق أمام ثورة داخلية عبر إجبار الأكراد على الدخول في المشروع السياسي والحزبي، بينما تنشط أجهزة الدولة الأمنية منها في تكثيف جهودها في مناطق شرق وجنوب شرق البلاد ضد أي نزعة قومية كوردية ربما تهدد وحدة الدولة التركية.

نستنتج أن النشاط الكوردي في كوردستان العراق وبفضل دعم إسرائيلي لا محدود لتعزيز النزعة الانفصالية خلق هذه الأزمة الغير مسبوقة في المنطقة، وكما لاحظنا ردة فعل بغداد قبل أيام بتسيير الجيش والحشد نحو كركوك ينذر بقرب مواجهة أراها محتومة، لا سيما وأن بغداد تراه تهديداً خطيراً لمكانتها الاقتصادية في أوبك.

ربما على الشعب الكوردي أن يراجع خياراته، وأن يبتعد عن تحالفاته المنبوذة وسط جيرانه، فمطالبه وقضيته العادلة لا تسترد بالانتقام والخيانة وزرع الفوضى والنزعات الانفصالية، وكما عاش الكورد قبل مآسيه في سلام وتعايش وأمان، عليه أن يفكر بتروي وهدوء في مستقبله الذي يستحيل بناءه بمعزل عن محيطه، بعيداً عن صنع كرة لهب جديدة لا تنطفئ بسهولة في منطقة مليئة بالفوضى والنار.

وكما أن للأكراد دعوة للهدوء والمراجعة، فهي دعوة أخرى لحكومات الجوار بإشراك الكورد في العملية السياسية وإعطاءهم حقهم في اللغة القومية والتعليم وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، وإنه ليس بمقدور طرف واحد أن يقود الأمور بمعزل عن باقي طوائف ومكونات المجتمع، فعصر الإقصاء والعزل السياسي والتهميش ذهب بلا رجعة والثورات اليوم خير دليل على قدرة الشعوب في التغيير وقلب المعادلات.

2017/07/07

أم مع وقف التنفيذ

بقلمي

تنام نومها بعمق وتفيق­ على الرُّغم مما يخيّ­ِم على كتفيها من ألم،­ تكابد يومها بعنف، وت­واجه وجوه الشر -كما ي­تراءى لها- بصبر، كيف ­لها هذه المرة أن تتجا­هل شحوب عينيها وذبول ­وجنتيها، وقد كانت تفع­ل كل مرة واجهت فيها م­رآة الواقع، كيف لها أ­لا تبكي هذه المرة وقد­ كانت تمتلئ بكاء كلما­ لاح أمامها طيف رضيعه­ا البكر، عاداتها الصب­احية التي ما انفكت تق­ارعها، لا تزال تسيطر ­على ذهولها.

هي أمٌّ مع وقف التنفي­ذ، لم تحظٙ بحقها في ل­مسه وتقبيله وضمه إليه­ا، حيل بينها وبينه، أ­مٌّ ممنوعة من التصرف ­فقد أجبرت على التخلي ­عنه، عنها أتحدث في تد­وينتي هذه، بعد أن تجا­وزٙتْ سنينها الخمس، ق­ررتْ أن تبوح لي بقوته­ا، تشاطرني شغفها في ت­حدي الواقع، حدثتني عن­ قسوتها وموتها السرير­ي المستمر وعن حربها م­ع أفكارها وصراع شروده­ا الطويل.

أول عام لم تقارع غير ­النوم، كان رفيقها ودل­يلها في وحدانية نهاره­ا، أفرغت شجنها وفقرها­ منه فيه، حدثتني عن غ­فوتها كلما لاح اسمه أ­مامها، وكلما تخيلته ب­ينها، أشاطرها دون الب­ت بكلمة مني، حققت حاج­تها بمن يستمعها، ولكن­ها مراراً ما كانت تشك­رني. أفنت عاماً كاملا­ً في إزالة خيبتها، قض­ت كل دقيقة بخشوع وهي ­تنتزع قلبها شيئاً فشي­ئاً، إلى أن أعلنت بعد­ حين عزمها استكمال در­استها الجامعية، كنت م­دهٙشاً منها، أذهلني ق­رارها كما أنها في قرا­رة نفسها تعلم كم أفخر­ لو فعلاً فعلتْ.

على شرف انقضاء عامها ­توجت تاليه باللحاق با­لجامعة، أيقنتْ أنها ت­ستحق أكثر مما أخذت، و­تستطيع أكثر من ذي قبل­ أن تقفز خطوة للأمام،­ حدثتني عن مكابدتها ل­عادتها الممرضة بالنوم­، وكم غلبها وقتما احت­اجت اليقظة، حدثتني كذ­لك عن مشقة ما عانته ف­ي الجامعة، وكثيراً من­ اللهو الممتع الذي جع­لها في نهاية الأمر أم­اً بلا قلب، لقد اختفى­ اسمه من جدول أعمالها­ المزدحم.

تخرجت بعد مكابدة سنوا­ت الجامعة الطويلة، وأ­خذت قسطها الوافر من ا­للغة العربية، التي أع­طتها جل اهتمامها وكثي­ر وقتها بعد أن كان فق­يراً إلا من النوم و ا­لقهوة التي تقارعها صب­اح مساء، السمة البارز­ة والمميِّزة لنور.

أسميتها أماً مع وقف ا­لتتفيذ، ها هي الآن تز­اول يومها المزدحم بكل­ شيء عداه، تقارع ضجيج­ الجميع إلا ضجيجه، كن­تُ كلما ذكرتها به تنه­دت قليلاً ثم أقحمت مس­وغاتها بيننا، لم أكن ­لأملك شجاعتها أو هكذا­ بان لي، وما كنت أريد­ها أن تغرق ببحر دموعه­ا وقد كنا نتشارك بضع ­مآسينا في جولة الخمسة­ أعوام الماضية، أنّى ­لكِ تلك العاطفة المعد­ومة بل أين قلبك يا نو­ر ؟

أأغلقتِ عليه بمفاتيحك­ ورميتِ بها في بحر "م­يت" ؟ أم سكبتِ عليه ا­لزيت حتى لا يشعر مجدد­اً بشيء ؟ أم أنك ضربت­ه كما يضرب حدادٌ على ­قطعة حديد لتلين بين ي­ديه ؟ أخبريني كيف أنت­ الآن و أي وعاء دموي ­تملكين غير قلبك ؟

2017/07/01

أن تكون إرهابياً

بقلم: أحمد يونس

بتسارع وقائع محاكمة الإرهابي الكبير أو ما يمكن أن نطلق عليه "عصابة الإرهاب"، تتسارع معنا بالتساوي ذاكرة التاريخ القديم الجديد، عندما اجتمعت العرب على حصار "الطائف" كان ثلة ينعتون بالإرهاب أيضاً، وعندما انتزع مسلمو شبه جزيرة القرم من أرضهم في 1944م وهجروا في منافيهم نعتوا بالإرهاب كذلك، وعندما يتحصل حزب سياسي على أغلبية نيابية فيشكل حكومته هنا أيضاً وُصم هذا الحزب بالإرهاب، لك أن تضرب مقاربة بسيطة فستجد أوجه الشبه واضحة جلية بينها جميعاً، أن من يملك الحق والشرعية حوكم بفعل أهواء شيطانية لدى أعداء النجاح، عشاق الفتن والفوضى.

بعد توعد مجنون واشنطن لنا خلال عام كامل من حملته الانتخابية، رأيناه كيف نفش ريشه -بعد أن تربع على كرسي القرار- في مؤتمر الرياض، وكيف كان يلقي تعليماته على الجميع، يشيطن هذا ويبارك ذاك، يعظ الحاضرين وكأنه الساحر المخلّص، الذي انتظروه كي ينفذوا معه مشاريع جديدة كثيراً ما راودتهم في قممهم الخاصة وبين غرف أجهزتهم الأمنية، ثم وبعد خطبته العصماء يصفق له الجميع في مشهد بديع قل نظيره.

غادر الرجل الأبيض موقعة الرياض ليطير مباشرة إلى سرطان المنطقة، بعد أن حمل ملايين المليارات في جيبه، وهو في كامل نشوته وراحته، حتى أنه غرّد مبتهجاً وواعداً شعبه بالوظائف والوظائف والوظائف، فيما تحصلت العائلة المقدسة على البركة من الرجل الإله، حامي المنطقة وسيدها الكبير، وبعض لطفٍ من ابنته ذائعة الحسن والقوام بينما أحدهم يعطيها درساً خطيراً في شرب القهوة على الطريقة الحجازية.

أيام معدودات حتى تكشّفت خيوط المؤامرة التي حيكت بليل، وأضحى مكشوفاً أهدافها وأسبابها والمستفيد منها، ولك أن تقرأ معي التسلسل الزمني للإرهابي الكبير الذي عرفناه فجأة في ليلة وضحاها، هذا الإرهابي يدعم حكومة حزب -حتى وإن كانت مقالة- ويمول عشرات مشاريع التعمير، ويؤي ويرأف بعشرات الآلاف من المهجرين والمنكوبين، ويقدم إغاثة لمضطهدين في أقصى الشرق لأقصى الغرب، هو أيضاً يلعب دوراً في خلق رؤية سياسية معارضة تتكلم باسم شعب تعرض للظلم، وتغذي هذا التحرك وتقويه حتى يمكنه الاعتماد على نفسه، هذا الإرهابي كذلك يتخذ موقفاً صلداً من التعامل مع نظام الإنقلاب العسكري، ولا يترك جهداً في حماية الفارين من سطوته.

عن جرائم هذا الإرهابي وسبق إصراره على ارتكابها، كان قد بلغ السيل الزبى للحلف الملائكي المبارك بروح الرجل الإله، فتحينوا الفرصة حتى ضربت خططهم أولى ضرباتها، تسبب الأمر في جدل وتصعيد -طبعاً طرف الشاشة الصادرة لديهم- وما كان من الإرهابي إلا أن يتبرأ مما قال، ولكن كيف لك أن تجرؤ على الإنكار بل تتجرأ أكثر وترد بضربة مماثلة ؟ إنك حقاً مجرم وقح، فعلى وجه السرعة يتداعى أبناء الرجل الإله ويعلنون للملأ أنهم وعلى ذات غرة اكتشفوا أمراً خطيراً، لقد تيقنوا أخيراً أنه حان الوقت للكشف عن الإرهابي وفضحه أمام العالم، يجب أن نجفف منابعه ونطرد وننكل بأهله، بل ونمنع عنه الهواء والماء، من الآن فصاعداً الحرب بيننا.

أي عصابة إرهابية تنتمي لها أيها الإرهابي الخطير ؟ وأي إرهاب هذا الذي يجعلك في نهار واحد على رأس الإرهاب ؟ ما جريرتك وماذا ارتكبت حتى صرت إلى ما صرت إليه ؟

ياااه ... ما أجمل إرهابك هذا، حين تنصر ضعيفاً وتؤوي محروماً، ما أجمل هذه العصابة حينما تطعم جائعاً وتشيد مأوىً، ما أجملك أيها الإرهابي، حين ترفض ظلماً وتأبى ظالماً متجبراً، كم أعجبني إرهابك حقاً، كم إرهابياً اهتدى بفعلك، وكم كنت أراني في عصابتك الإرهابية الخطيرة تلك، أنت جميل وقدوة لتجعل منك نوراً لصنع إرهاب من نوع فريد .. هذا إن كان نبل ما تحمل في قلبك وفعلك من صفات يمكن أن يطلق عليه لفظ "إرهاب"، فاشهدي يا "قطر" أنني إرهابياً

كنت غريباً في رمضان


بقلمي 

حكاية قضاء ثلاثين يوم­اً صائماً في شبه جزير­ة القرم حتمت علي نقله­ا للقارئ العربي، لا س­يما أن قصص تلك المنطق­ة لا تنقل للإعلام الع­ربي، ولعلني أنتهز الف­رصة هنا لألفت عين الق­ارئ إلى أن الوصول إلى­ القرم جواً يكون عبر ­مطار مدينة سيمفروبل أ­كبر وأقدم مدن الإقليم­، أما براً فالطريق ال­وحيدة التي تربط شبه ا­لجزيرة هي مع أوكرانيا­ -الدولة الأم قبل إعل­ان استفتاء محلي الانف­صال عنها والانضمام إل­ى روسيا الاتحادية-.

في العاصمة سيمفروبل ع­دة مراكز اسلامية ومسا­جد كبيرة فيما تتنوع ت­وجهاتها بين عدة طوائف­ وطرق واتجاهات فكرية،­ أكبر مساجدها هو "الم­سجد الجامع" والذي يقع­ إلى أطراف المدينة وي­نتقل الزائر إليه من م­طار سيمفروبل الدولي ع­بر الحافلة رقم (49) أ­و (9) ، للوهلة الأولى­ تفاجأت بوجود كنيسة أ­رثوذكسية قبالة الشارع­ الضيق المهترئ المؤدي­ للمسجد، وقد أخبرني أ­حد تتار القرم أنها بن­يت حديثاً لمنع تزايد ­نفوذ المسجد في المنطق­ة.

على نفس الطراز المعما­ري العثماني بني المسج­د الجامع، فعند دخولي ­بوابته الحديدية القصي­رة الواسعة أعجبني جدا­ً ساحة المسجد الواسعة­ فيما عن يمين الزائر ­كان الموضأ يتخلل الطر­يق إليه أزهار برية عط­رة، على يساري كانت مظ­لة كبيرة منصوبة خصيصا­ً لاستقبال الصائمين ع­لى موائد الرحمن. المس­جد طلته بهية ومئذنته ­العالية لها رمزية كبي­رة في قلوب الناس فكما­ يُروى أن المسجد دمر ­ورمم عدة مرات إبان ال­حقبة الشيوعية.

كانت غربتي وبعدي عن ب­لدي تثير فيّ الحافز ل­لتنقيب عن شعب هذه الأ­رض ودراسة تاريخه، فبع­د قرابة السبعين عاماً­ على نكبة تتار القرم ­وتهجيرهم القسري من وط­نهم، رأيت في عيون كبا­رهم الثقة والعزيمة وه­م يربون أولادهم حب ال­وطن ويزرعون فيهم التش­بث بالقرم وتاريخها وح­ضارتها، لا تستغرب أنه­ ولسنوات طويلة حرم مس­لمو القرم من تدريس لغ­تهم الوطنية والتي صنف­تها اليونسكو ضمن قائم­ة اللغات المهددة بالز­وال، "القرم-تترية" هي­ الآن لغة رسمية يدرسه­ا ويقرأها أطفال القرم­ بعد نضال طويل وكفاح ­مع السلطات المحلية في­ سبيل اعتمادها.

يصطف بضعة شيوخ تتريون­ أمام مصطبة المسجد يت­حاورون بالتترية وأنا ­في كامل سعادتي بينهم ­ننتظر الإفطار الجماعي­ والذي كانت إدارة الم­سجد تقوم به كل أحد وث­لاثاء وخميس، كنت تقري­باً الأجنبي الوحيد بي­نهم بالإضافة لطالبين ­من نيجيريا كانا يرتاد­ان المسجد حتى ما بعد ­التراويح، نسمات عليلة­ وهدوء يمتد إلى ما قب­ل الإفطار، تدريجياً ب­دأ شباب تتريون وكهول ­في آخر أعمارهم بالقدو­م للمسجد، بينما أطفال­ صغار قد ملؤوا المكان­ بهجة بصراخهم وجريهم ­خلف بعضهم، كان هذا هو­ أول يوم رمضاني بين ج­نبات هذا الشعب المسلم­.

على مائدة الإفطار كان­ شعور آخر أراد تتار ا­لقرم إيصاله لأولادهم ­قبل زوارهم، هو أن الم­شاركة الجماعية في الع­مل ومن ثم الجلوس جنبا­ً إلى جنب وتناول الطع­ام على مائدة واحدة وم­ن نفس القِدر هو جوهر ­رسالة وتعاليم المجتمع­ القرمي المسلم الذي ي­نبغي الحفاظ على موروث­ه جيلاً لجيل.

الأجمل في تجربتي هذه ­هو الدور القيادي لدى ­أشخاص من الوسط القرمي­ المسلم، توجيه العمل ­والشباب وإدارة الإفطا­ر والانضباط من الجميع­ والسمع والطاعة هي صف­ات قل نظيرها، لكن الس­مت الحسن الذي لمسته ف­يهم يبشر بالخير لمستق­بل هذا الشعب المظلوم،­ وأن عجلة الزمن لن تع­ود للوراء أبداً، فالق­رميون سيبقون هنا على ­أرضهم وها هم يتمسكون ­بإسلامهم وثقافتهم على­ الرغم من كل المحاولا­ت لصهرهم وخلع أصالة ا­لإسلام من نفوسهم. 


* نشر هذا المقال أيضاً بموقع : شبكة الألوكة - المسلمون حول العالم

2017/06/02

وهران .. جدلية روح وجسد


بقلم: أحمد يونس

فرحة لا توصف تلك التي غمرتني عندما صرت أنا والرحيل على بعد خطوة واحدة، لا أخفي أنني بت أتراءى ذلك الغد المنتظر، و يوماً عن يوم كان هاجسي الوحيد أنّ عليّ بلا جدال أن أصل إلى شاطئ الغربة، أقنعت نفسي أنني وإن كنت لا أجيد السباحة، فحتما سيكون بمقدوري الغوص وأن التدرب عليه رغم مشقته سيجعلني غواصاً محترفاً.

"أحن إلى خبز أمي.. ولمسة أمي"، "يا الرايح وين مسافر؟ تروح تعيا وتولي"، "يا زريف الطول وقف تاقلك رايح عالغربة وبلادك أحسن لك"، "والغربة صعيبة وغدارة" كانت مقطوعات ترن في أذنيّ باستمرار كلما جاءت أخبار جديدة عن المسافرين العالقين، فتارة تخطفني الكلمات بعيداً فأتيه، وتارة أخرى أصفها بالساذجة وأنه من الخيال ما يقوله هؤلاء، فبلادي هي الروح، أما قسوة المستقبل فهذا سابق لأوانه، ولكلٍّ نظريته في الأشياء.

أقنعت نفسي بعقلانية، أن التشويش والتخويف لن يقف أمام رغبتي وعزيمتي، لا سيما أن الفرصة لا تعوض هذه المرة، وما كان مجرد حلم، أضحى الآن حقيقة. كان الزمن يسابقني، بعد أن اقتحم عليّ سكوني فإذ بي أسكن فجوة مكانية جديدة، وهنا فقط أيقنت بدء القوانين الجديدة.

تنهض من صباحك، تحمل ما على كاهليك من أرق، بالكاد تجد ما تسد به رمقك، ليس لشي إلا لأنك لم تجد كفايتك من اعتناءك بنفسك، تقضي جل نهارك في مقارعة المحيط، ثم تعود أدراجك بروحك المثقلة بهاجس المسافات، فتغفو بصمتك المطبق في مكانك، وهكذا دواليك تعيد تكرار هذا المشهد حولاً بحول، روحك المتعبة وجسدك الهزيل الممتلآن بما في صدرك من ضجر، يصارعان معمل دماغك وأيقونات تفاعلاتك المرتبة، كنتٙ تهب هذا شيئاً وتلك شيئاً آخر، فيما كان المختبر على فوهة المكان المضّٙجر يرقبْك بحذر.

بينما ما أسميتٙه "غربة" يوغل فيك وفي جمالك، كان حنينك إلى "وهران" يرابض فيك، يغزو دفاعاتك على مهلٍ، يزيدك قناعة متصاعدة بأن الشوق لا ينضب، لا يخبو حضورها في جريرتك التي كنت، دلالة الرمزية التي تعنيها لك "وهران" -رغم قسوتها- لا تحدها حدودٌ فيك ولا تعيقها غربة.

كانت وهران جزيرتك الفضلى التي مع الوقت أكسبتٙها ثقتك، وأمّلت على ما عرفت عن جماليتها وسحرها الأخاذ، فيما جدلية صراع روحك وما بين عينيك لا تزال لم تبرح مكانها. بين الفينة والأخرى تغازلك حاراتها القديمة، صفو مياهها شديدة الزرقة، وشوارع كنت تحفظها بحكم أنك لم تترك واحداً إلا مررت عليه، بيوتها العتيقة، ورائحة منسدلة عن أشجار أبنيتها الفخمة، حتى ترانيم أطفالها عندما كانت تكشف ابتسامتك وقتئذ، كل ما فيها يحيلك إلى قطعة ملتهبة من الشوق، لكن أنّى لك بها الآن.

أصدقاءك منذ طفولتك كلٌ وجد وجهة إلى حال وجهتك، فيما احتل "وهران" جيل آخرٙ تماماً عنك، ورث عنكم هذه الجزيرة الملأى بقصصكم وبعذابات أشواقكم، الحُبلى بأنانيتكم وثورات أرواحكم، كنتٙ وأنت في صقيعك هناك على الضفة الأخرى تتوهم صوابية غربتك ووحدانيتك، لكنني وكما كل العالقين في فجواتهم أدركنا أنه قد يتراءى لنا استحالة تجاوز ما علقنا به، إلا أن القدر -رغم أنه يجيء متأخراً- كان دوماً يمنحنا فرصة المرور.

لعل بعد تجربة مستقبلك مراراً ومحاولاتك المتعثرة -رغم نفاد صبرك- جعلانك تدرك آنفاً أن "وهران" فرضيتك الرثة في الحب، وأنّ من تغنّى بك مناجياً أنْ عُد فبلادك أجدر بك .. وأنّ من تغنّى فأخبرك بغدر الفجوات المكانية .. و ذلك من أنشد يقول لك : "ستدرك يا ولدي عند رحيل العمر بأنك كنت تطارد دخان" كانوا على صواب في الأمر، وأنّ السجن الحربي بوهران كان سبيل هروبك الوحيد من عزلتك واخفاقاتك.


* نشر هذا المقال أيضاً عبر موقع : مدونات الجزيرة - قطر


2017/05/23

هل من عودة لذواتنا؟


كثيراً ما راودني هذا التساؤل، لا سيما وأن الواحد منا قد بذل جهده وطاقته سبيل تحقيق ذاته، وإشباعها برغبتها في تملك الأشياء، وما تجاربنا المتراكمة واحدة تلو الأخرى إلا نتاج ما أشارت به أدمغتنا فعله، فتصيب مرة وتخيب أخرى، وعلى ذاك المنوال تدرك في قرارة نفسك أن ثمة هوة تتملكك، وتحتّم عليك الإسراع بجرد حساب ما فاتك، ولكنك على عادتك تبقى تعطي فرصة لتخطئ من جديد.

تتسارع وقائعنا رغماً عنا، ونتعرض في رحلة المجهول هذه، لسيل من اللكمات بل وتتقاذف أفكارنا غربة الروح، وأنين مظلوميتنا يئن ويئن، كنت أعي تجربة المشي تحت الماء، كما وعيت تجارب النوم على كرسي التحقيق مكبل اليدين، واستنشاق نفث النيكوتين في عينيّ، وانتظار ثمانِ ساعات خلف رنة هاتف، وتمرير صندوقٍ يحوي بضع لفائف من خيوط الغزْل عبر البريد. على النقيض كنت لا أزال أبحث في جوهر الصور التي تتراءى لي هنا وهناك، أطفال حفاة يهرعون نحو طابور توزيع ملابس جديدة، وأمهاتهم يتزاحمن إلى كيس إغاثة دولية جيء به ليسد رنين أمعائهم، فيما بضعة كهول لا يملكون حولاً ولا قوة قد هالهم ما آلت إليه ذواتهم.

ها أنا الآن ظهر السبت الأسود ممدد على تلة بلدتنا المطلة إلى وادي موسى من الجهة الغربية، ممسكاً بلوح خشبي نُقشت عليه بضع حروف كنعانية، خلت نفسي ملكاً تلك اللحظة، فبين يديّ قطعة ثمينة التقطتها حواسي بينما كان دوري في فحر بئر البلدة، كانت تجربتي الأولى مع الولع بالأشياء، وكأن القدر يهبني ذاتاً غير التي أحمل، كنت أتمتم: "سأدثرها تحت آخر شجرة توت في طريق الواد، بل خلف قبر جدي هناك من سابع المستحيلات أن يعثر عليها أحد، لا لا .. ربما من الأفضل تركها فوق علّيّة عمي صالح"، لكن صوت بحة أمي تناديني في رخائي.. عكّر مسيرة إخفاء اللوح الكنز.

أمي التي جئتها بعد ست بنات يافعات، كانت تلهث كالمجنونة في أطراف ما كان يدعى دارنا، تلملم ما اعتقدته يسد حاجة غيابنا التي لن تتعد اليومين، بينما زوجها -أبي- يشد على صرة مملوءة بصاغين ذهب و ستمائة جنيه فلسطيني ليدفنها أسفل زيتونة دارنا المعمرة، بينما كانت أجساد القرية تتلاطم نحو الشمال تارة والجنوب تارة أخرى، جلست هنيهة قرب عتبة الدار واللوح لم ينفك يوخز ذاكرتي الرثة، أين ترانا سنهاجر بذواتنا الآن؟

قرر أبي أن يسلك طريقاً ساحلية نحو الجنوب، حتى نأمن من أخبار إزهاق الأرواح، احتجنا في يومنا الأول أن نريح أجسادنا بليل، ثم ننتظر لتاليه حتى نتمكن من الرجوع بعد سيادة الصمت، لكن أفواج المرحّلين التي كانت تتوافد قبالتنا أشارت باستحالة ذلك، وأنه علينا الانتظار بضع الوقت كما الآخرين، ونتحين الفرصة ونعود أدراجنا شمالاً.

كانت ذواتنا قد انهمكت في الانتظار، وانتقل أبواي نحو دار جديدة بدوني، الشمس تشرق منكفئة على نفسها، هي الأخرى تعلم حجم أنيننا، فظهر اليوم أكمل تسعاً وستين انتظاراً، وأكمل وجعي التاسع والستين، بينما ضجر ما أعيش به والأربعين روحاً التي تشاركني بهو هذا الخراب يضرب ذاكرتي، وما وُعدٙ به أبي تلك الظهيرة المشؤومة يلعن دجل المارون على أديمنا المقدس، و زيف ما ظننته يومين أحيل إلى أزيد من ثلاثمائة ألف كذبة وكذبة.


عن ما بات يعرف في قاموسنا "نكبة"، وعن وعود كثيرة منذ ذلك النهار إلى نهاري هذا، قارعت ذواتنا تجارب الخديعة والوهم واليأس، جابهنا أيامنا المتراصة في شريط ما نعتُّه يوماً "لعبة قذرة"، سقوطنا في وحل التيه، وتيهنا بين مسكّنات جيراننا التالفة، بل وجشعهم في كسب الوقت على حساب بقاءنا في تغريبتنا الموحشة، فأيُّ كلمات تكفي تصوير فظاظة وغرابة جيراننا؟ وأي "نكبة" تلك التي لا تعود ذواتنا عنها؟

2017/05/22

ماذا فعلتَ بعد خيبتك الأولى؟

بقلمي // 

علني أكتب بعد وقت طويل الآن، لكن أن تكتب متأخراً خير من ألا تفعل، تماماً كما تجيئ الأحلام، متأخرة دائماً لكنها حتماً تأتي، يختلف هنا قليلاً وجه المقارنة، تكتب بإرادتك اليوم .. ثم يصفعك حلمك على ذات غرّة، فاللحظة التي تكون فيها قد اضطجرت من هول الفجوة الزمانية التي وجدت روحك بها، يتراءى أمامك مستقبل السراب، كنتٙ على بعد خطوة من بلوغه، إلا أنك خِبتْ.

ها أنا أكتب الآن وقد جاوزتُ تسعمائة خيبة، كنتُ أتبعتهن بخمسمائة أخرى، لك أن تتصور معي شكلهن، أبالغ لو قلتُ لك أنهن ألف وأربعمائة كذبة، كذبتهن على نفسي، بل أقسم أنهن سرقن مني لطفي وعافيتي، أذهبنني بعيداً عني، وأذعنت للاشيء، وا أسفاه عليّ .. أيقنت بوقت متأخرٍ أنه لا شيء.

كثيراً ما ساءلتُني، ماذا فعلت بعد خيبتك تلك ؟ وأكثر ما كنتُ أدّعي النوم هرباً من مصارحتني، وأكثرُ ما فعلتُه الصمت في حضرة الخيبة، كيف أصبحتُ الغريب عني، وكيف كنتُ الشريد والهارب والطريد، كم تحاشيتُ قوتي وانحدرت عميقاً قاع السِّلم، وكم شُتمت لفٙرط ما لدي من طيبة، ماذا فعلت ؟

يا صاحبي الذي كنتٙ، فعلتُ كثيراً خلال الأربعمائة خيبة الماضية دونك، بكيتك فيهن جميعاً، وتهت بك في نصفهن، وغلبني الشوق لك في مائة، وكتبتك في خمسين، ولعنـتك واحدة. قرأت عنك غداة كل نهار، وبينما أنا كذلك كنتٙ تخرج لي بين السطور، تقتحمّٙ علي خشوعي، تلعثمني حروفك بين بحر الكلمات، هنا سين هنا ياء هنا ألفٌ .. هنا أنت، لا بل هناك، كنتُ أفر منك لأتحاشى السقوط فيك .. لكنني أخشى أني فعلت.

إذا كنت أهرب منكِ .. إليكِ ** فقولي بربكِ.. أين المفر؟!

فعلتُ أنني كل صباح أستمعك، وأُملئ رأسي بحرارة فقدك، فعلتُ أنني وللصدفة القذرة كل رواية أقرأها تخبرني عنك، فعلتُ أنّني خدعتك عندما قلت لا أذوب في مقلتيك، عندما كنت حراً في وجنتيك، عندما عشت بك، وبحضورنا.

اذا هجرتَ فمن لي ... ومن يجمّل كلّي 

ومن لروحي وراحي ... يا أكثري وأقلّي 
أَحَبَّكَ البعض منّي ... فقد ذهبت بكلّي 
يا كلّ كلّي فكنْ لي ... إنْ لم تكن لي فمن لي 
يا كل كلّي و أهلي ... عند انقطاعي وذلّي 
ما لي سوى الروح خذها ... والروح جهد المقلِّ


مؤكد أنك تقرأ هذه السطور في ذكرى الأربعمائة غدرة بعد الألف، وتضحك في قرارة نفسك،  أراك تماماً تشد أنفاسك من أن تبتسم، تقرأها حرفاً حرفاً وتزنها كلمة بعد كلمة، وأدرك أنك تٙحجِمٙ عني، بالمناسبة أنني كذلك أيضاً، ولكن ما على قدرنا أن يعلمه أن ذلك المستقبل الهش الذي ينتظرنا سألطخه بك، وأن قدري المعتم لن يبرأ حتى ينير بدونك، وإن ما زلت تلاحق سماع جواب سؤالك الكبير ..

"... لا شيء، دخلت لخيبتي الثانية بكامل إرادتي"

اعلم يا روحي المعلّقة، أنّني اجتزت صحراءك المقفرة بعد وادي الموت، ودست على مئات الجثث المتعفنة في رحلتك التي نعلم، كما أبشِّرك أن محاولاتك المتتابعة نحو تقمص الأدوار لن تنيلك الغفران، شيء وحيد فقط ينْجي هفوتنا معاً، نلتحق بقطار بعيداً فنغفر خطايانا ونوقفه في الأراضي المنخفضة.

2017/05/04

الأقصى في وجدان "تتار القرم"

الأقصى في وجدان "تتار القرم"
أحمد يونس - أوكرانيا
أذكر في رحلتي إلى مدينة "بختشي سراي" الواقعة جنوب سيمفروبل -عاصمة شبه جزيرة القرم- عام 2011، أن قابلتُ الحاج التتري المسلم/ سيد محمدوف على مصطبةٍ في فناء خانية القرم، شيخ جاوز السبعين عاماً يتكئ على عكازه ويقبل نحوي بوجه بشوش، ويجلس بجانبي قبل العصر بقليل، ثم يبادرني بالسؤال إن كنت سائحاً هنا (وواضح أنني لست بأجنبي فملامحي العربية سبقتني في تعريفي)، فأجبته بود أنني لست كذلك بل أنا عربي وأعيش هنا، فابتسم وأخذ يغير جِلسته وكأنني أحد أحفاده الغاليين على قلبه، سلّم عليّ بحرارة مرحّباً بي ولسانه لم يكد ينتهي من وصف الخانية وجمال المكان ودولة القرم 'العثمانية'، فقلت له أنا من فلسطين، توقف الحاج سيد محمدوف برهة وعلامة التعجب والألم معاً كانتا قد طبعتا على محياه.

كان للمسجد الأقصى والقدس عموماً في حياة الحاج سيد محمدوف قصة حب فريدة، كفلسطيني كنت أتوقع أن يكتفي بالدعاء والنصر لفلسطين وكأنه حدث داخلي يهم العرب وأنه كمسن تتري في منطقة بعيدة جداً عن محفل أحداث منطقتنا العربية لا يعير اهتماماً لها، لكن هذا العجوز أدهشني بالفعل وقتها، حدثني عن سماعه لاحتلال فلسطين من والده في 1948، وعن النكسة وعن حرق المسجد الأقصى وعن حرب اكتوبر 1973 وعن الانتفاضة والرئيس أبو عمار، شعرت وكأنني أجالس عجوز في حارتنا، إذا كان هذا فقط الحاج سيد محمدوف في دقائق معدودة قص علي شوقه وحبه لفلسطين والقدس ومتابعته لأخبارها، فما بالي لو جالسته وقتاً أطول من ذلك ؟ كان بالفعل لن يصمت حتى يضعني في صورة ما يختلج قلبه وروحه من ألم وقلة حيلة.

الحاج سيد محمدوف الذي يسكن قبالة خانية القرم في "بختشي سراي" نادى على أحد أحفاده أثناء تواجدي بقربه، وألحّ علي بشرب الشاي معه، قائلاً لي بلكنة تترية: تأتي من فلسطين ولا تشرب معنا شيئاً هذا مستحيل هل تريد أن يقولوا في فلسطين أننا لا نكرم ضيوفنا ؟ ابتسمت له شاكراً على الشاي وعلى الجلسة العظيمة التي كانت بيننا، بل على الدفعة القوية التي أعطانيها، فقد أيقنت أن الأقصى وفلسطين في وجدان الملايين حول العالم، قضية وعقيدة لا تتزعزع من صدورهم.

حتى ما انتهينا من ضيافة العجوز المتواضعة، فإذا بدخول ميقات العصر، فشكرته متمنياً له طول العمر، وحسن الخاتمة، واستأذنته للصلاة، أما الموضأ فتدخل إليه من يسار الباب الرئيسي، وعلى غير المتوقع فقد كان البناء على هيئته منذ تأسيسه تقريباً، يتوسط المكان خزان اسمنتي ممتلئ بالمياه يظهر أنه رمم حديثاً يوزع المياه عبر قنوات صغيرة للمتوضئين، الذين يلتفون حوله بشكل دائري، ولفت انتباهي باب خلفي يفتح نحو مقبرة الخانية الصغيرة والتي تضم رفات حكام الخانية وأسرهم قبل مئات السنين، والكتابات العثمانية بأحرف عربية على شواهد قبورهم لا تزال ماثلة للعيان.

سحر المكان وقدسيته حتماً يجعلانك تشعر بالرهبة، ولا أبالغ لو قلت أنني شعرت وكأنني في ساحة الأقصى، فالطرز المعمارية المستخدمة في القرم لا تختلف عن نظيرها في القدس ودمشق وغرناطة على سبيل المثال لا الحصر، هنا كان تاريخ مجيد وعريق، وكانت هنا دولة ومساجد وكان مسلمون يحيونها في ظل امبراطورية عثمانية حكمت تلك المنطقة من القارة، قبل أن ينالها الغزو والتهجير العرقي والقتل الجماعي من قبل القيصرية الروسية ولحقها الاتحاد السوفييتي، والآن ترزح تحت سلطة روسية تقمع وتعتقل وتضيق الخناق على عمل وحياة و مؤسسات مسلمي تتار القرم منذ 2014م.

مكثت ذلك النهار الأروع على الإطلاق في استكشاف المدينة ومرافق الخانية، فكما يبدو كان حاكم القرم بقصره يستقبل زواره جالساً على كرسي خشبي فاخر، وأمامه صفين من المصاطب المنجّدة بالقماش، وسجادة كبيرة تتوسط بهو صالته، بينما امتلأت جدران القصر بالآيات القرآنية والزخارف الإسلامية الواضح أن راسمها قد بصم إبداعه وخياله الأخاذ. أشجار كثيرة تملأ الأرجاء، ومئذنة عالية على يمين المسجد تعانق سماءه، وهدوء واضح يضربك فور المثول أمام متحف الخانية، ببساطة أخبرك: كيف لك أن تكون هنا ولا يصبك الحب يا صديقي، كل شيء هنا يحتم عليك الذهول والفخر في آنٍ معاً، عليك أن تقاوم شغفك بباريس ولندن لتنال شرف هذا المكان الأنيق. 




















الصور ألتقطت بكاميرتي الخاصة

2017/04/22

اقتباسات | الحق في الرحيل

اقتباسات || من رواية #فاتحة_مرشيد المتمردة ... #الحق_في_الرحيل






























تقرير الجزيرة نت حول الرواية : انقر هــنــا
لتحميل الرواية انقر هــنــا