بقلمي
حكاية قضاء ثلاثين يوماً صائماً في شبه جزيرة القرم حتمت علي نقلها للقارئ العربي، لا سيما أن قصص تلك المنطقة لا تنقل للإعلام العربي، ولعلني أنتهز الفرصة هنا لألفت عين القارئ إلى أن الوصول إلى القرم جواً يكون عبر مطار مدينة سيمفروبل أكبر وأقدم مدن الإقليم، أما براً فالطريق الوحيدة التي تربط شبه الجزيرة هي مع أوكرانيا -الدولة الأم قبل إعلان استفتاء محلي الانفصال عنها والانضمام إلى روسيا الاتحادية-.
في العاصمة سيمفروبل عدة مراكز اسلامية ومساجد كبيرة فيما تتنوع توجهاتها بين عدة طوائف وطرق واتجاهات فكرية، أكبر مساجدها هو "المسجد الجامع" والذي يقع إلى أطراف المدينة وينتقل الزائر إليه من مطار سيمفروبل الدولي عبر الحافلة رقم (49) أو (9) ، للوهلة الأولى تفاجأت بوجود كنيسة أرثوذكسية قبالة الشارع الضيق المهترئ المؤدي للمسجد، وقد أخبرني أحد تتار القرم أنها بنيت حديثاً لمنع تزايد نفوذ المسجد في المنطقة.
على نفس الطراز المعماري العثماني بني المسجد الجامع، فعند دخولي بوابته الحديدية القصيرة الواسعة أعجبني جداً ساحة المسجد الواسعة فيما عن يمين الزائر كان الموضأ يتخلل الطريق إليه أزهار برية عطرة، على يساري كانت مظلة كبيرة منصوبة خصيصاً لاستقبال الصائمين على موائد الرحمن. المسجد طلته بهية ومئذنته العالية لها رمزية كبيرة في قلوب الناس فكما يُروى أن المسجد دمر ورمم عدة مرات إبان الحقبة الشيوعية.
كانت غربتي وبعدي عن بلدي تثير فيّ الحافز للتنقيب عن شعب هذه الأرض ودراسة تاريخه، فبعد قرابة السبعين عاماً على نكبة تتار القرم وتهجيرهم القسري من وطنهم، رأيت في عيون كبارهم الثقة والعزيمة وهم يربون أولادهم حب الوطن ويزرعون فيهم التشبث بالقرم وتاريخها وحضارتها، لا تستغرب أنه ولسنوات طويلة حرم مسلمو القرم من تدريس لغتهم الوطنية والتي صنفتها اليونسكو ضمن قائمة اللغات المهددة بالزوال، "القرم-تترية" هي الآن لغة رسمية يدرسها ويقرأها أطفال القرم بعد نضال طويل وكفاح مع السلطات المحلية في سبيل اعتمادها.
يصطف بضعة شيوخ تتريون أمام مصطبة المسجد يتحاورون بالتترية وأنا في كامل سعادتي بينهم ننتظر الإفطار الجماعي والذي كانت إدارة المسجد تقوم به كل أحد وثلاثاء وخميس، كنت تقريباً الأجنبي الوحيد بينهم بالإضافة لطالبين من نيجيريا كانا يرتادان المسجد حتى ما بعد التراويح، نسمات عليلة وهدوء يمتد إلى ما قبل الإفطار، تدريجياً بدأ شباب تتريون وكهول في آخر أعمارهم بالقدوم للمسجد، بينما أطفال صغار قد ملؤوا المكان بهجة بصراخهم وجريهم خلف بعضهم، كان هذا هو أول يوم رمضاني بين جنبات هذا الشعب المسلم.
على مائدة الإفطار كان شعور آخر أراد تتار القرم إيصاله لأولادهم قبل زوارهم، هو أن المشاركة الجماعية في العمل ومن ثم الجلوس جنباً إلى جنب وتناول الطعام على مائدة واحدة ومن نفس القِدر هو جوهر رسالة وتعاليم المجتمع القرمي المسلم الذي ينبغي الحفاظ على موروثه جيلاً لجيل.
الأجمل في تجربتي هذه هو الدور القيادي لدى أشخاص من الوسط القرمي المسلم، توجيه العمل والشباب وإدارة الإفطار والانضباط من الجميع والسمع والطاعة هي صفات قل نظيرها، لكن السمت الحسن الذي لمسته فيهم يبشر بالخير لمستقبل هذا الشعب المظلوم، وأن عجلة الزمن لن تعود للوراء أبداً، فالقرميون سيبقون هنا على أرضهم وها هم يتمسكون بإسلامهم وثقافتهم على الرغم من كل المحاولات لصهرهم وخلع أصالة الإسلام من نفوسهم.
* نشر هذا المقال أيضاً بموقع : شبكة الألوكة - المسلمون حول العالم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق